محمد علي فقيه* منذ سنوات طويلة، ظلّ في المخيال العربي تصوّر شبه ثابت: الصين دولة صاعدة، محايدة، بل أقرب إلى حليف طبيعي للعرب والفلسطينيين، ...
منذ سنوات طويلة، ظلّ في المخيال العربي تصوّر شبه ثابت: الصين دولة صاعدة، محايدة، بل أقرب إلى حليف طبيعي للعرب والفلسطينيين، تقف في مواجهة الهيمنة الأميركية وتدعم قضايا التحرّر. هذه السردية تكرّست في الإعلام والخطاب السياسي العربي، حتى غدت بمنزلة «بارادايم» يصعب اختراقه.
محمد علي فقيه*
لكنّ الغوص في التاريخ والوقائع يكشف صورة مختلفة تماماً: علاقة قديمة ومعقّدة بين الصين والحركة الصهيونية، تبدأ منذ عشرينيات القرن الماضي [1]، وتتواصل حتى الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، بل الاستثمار المباشر في المستوطنات خلال سنوات الإبادة في غزة [2].
وعد بلفور الصيني
كما كان هناك وعد بلفور بريطاني، وُجد أيضاً ما يمكن وصفه بـ«وعد بلفور الصيني»؛ ففي عام 1920 تلقّى صن يات سن، مؤسس الجمهورية الصينية الحديثة، رسالة من رئيس الجمعية الصهيونية في شنغهاي عزرا خضوري [1]، يطلب فيها دعماً للمشروع الصهيوني. لم يتردّد صن يات سن في الرد، معبّراً عن «تعاطفه العميق» مع الصهيونية وواصفاً إياها بأنها «من أعظم الحركات في عصرنا».
هذا الموقف، المبكر جداً، أسّس لمسار تلاقٍ بين الصين الصاعدة حينها والحركة الصهيونية الباحثة عن رعاة جدد لمشروعها في فلسطين.
الصين ونكبة 1948
ما بين الحرب الأهلية الصينية والصعود الإسرائيلي، جرت اتصالات سرّية أفضت إلى دعم مباشر. عام 1945، طلب مردخاي أولمرت (والد رئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقاً) مساعدة عسكرية من مسؤولين صينيين، وحصل عليها بالفعل [3]. تشير بعض الدراسات الألمانية إلى أنّ السلاح والمال الصينيين أسهما في تمكين العصابات الصهيونية [3]، بما يجعل الصين شريكاً غير مباشر في نكبة الفلسطينيين. هذه الحقائق غابت كلياً عن السردية العربية التي اختزلت تلك الحقبة في صورة الصين الاشتراكية المناهضة للاستعمار.
مناصرة التحرّر… مرحلة قصيرة
مع تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، ومع الحرب الباردة، تبنّت بيجينغ خطاباً داعماً لحركات التحرّر، ومن ضمنها منظمة التحرير الفلسطينية التي نالت دعماً عسكرياً وسياسياً كبيراً في الستينيات [4]. غير أنّ هذه اللحظة لم تستمر سوى سنوات محدودة (1964 – 1970 تقريباً). ما إن فتحت الصين أبوابها للولايات المتحدة في عهد نيكسون وكيسنجر، حتى بدأت ملامح الانعطافة: الانخراط في النظام الدولي الجديد يعني، ببساطة، القبول بإسرائيل كأمر واقع [5].
من التطبيع إلى «الحياد المنحاز»
عام 1992 طبّعت الصين علاقاتها رسمياً مع إسرائيل [6]. منذ ذلك الحين، بنت بيجينغ ما يمكن وصفه بـ«إستراتيجية الحياد المنحاز»: خطاب علني يتحدث عن حل الدولتين و«دعم الشعب الفلسطيني»، يقابله في الممارسة اعتراف متكرر بإسرائيل كـ«دولة يهودية» [6]، واستثمارات واسعة في بنيتها التحتية، وصولاً إلى شراكات تكنولوجية وعسكرية سابقة [5]. هذا التناقض بين الخطاب والفعل هو جوهر الإستراتيجية الصينية: الحفاظ على صورة «الوسيط العادل» مع ضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل.
الاستيطان: شراكة عملية
تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2019 حدّد 112 شركة عالمية متورطة في المستوطنات [7]، من بينها شركات صينية كبرى، معظمها مملوكة للدولة. الاستثمارات الصينية شملت شركة «تنوفا» للألبان التي تعتمد على منتجات المستوطنات [8]، وشركة «أهافا» لمستحضرات التجميل المقامة في الأغوار [8]، إضافة إلى شركات إنشائية أسهمت في ربط المستوطنات بالمدن الإسرائيلية. بل إنّ شركة «أدما» الصينية قدّمت خلال حرب غزة الأخيرة دعماً مالياً للمستوطنين في غلاف غزة [8]. هذا لا يترك مجالاً للتأويل: الصين شريك مباشر في ترسيخ مشروع الاستيطان.
الخطاب الصيني: إعادة كتابة للتاريخ
منذ التسعينيات وحتى اليوم، تتكرّر في الخطاب الرسمي الصيني إشادة بـ«الأمة اليهودية العريقة» [6]، وربطها بالحضارة الصينية، بل واستدعاء شخصيات مثل كارل ماركس وأينشتاين بوصفهما من «عظماء اليهود» [6]. هذا الخطاب يضفي شرعية تاريخية وأخلاقية على إسرائيل، وينزع عنها طابعها الاستعماري. الأخطر أنّ بيجينغ تتحدث عن «معاناة اليهود» تاريخياً، وتتجاهل تماماً معاناة الفلسطينيين، أو تختزلها في صياغات إنسانية عامة مثل «الأزمة الإنسانية» أو «العنف المتبادل» [9].
الصين في حرب غزة والإبادة
خلال الإبادة الجارية في غزة، لم تستخدم الصين أبداً كلمة «إبادة». اكتفت بالحديث عن «أزمة إنسانية» [9] وبالمطالبة بـ«تخفيف عنف المستوطنين». في المقابل، نشرت وثائق مطوّلة تهاجم «الهيمنة الأميركية» من دون ذكر فلسطين إطلاقاً [10]. السفير الصيني لدى تل أبيب لم يتوقف عن كتابة مقالات في الصحف الإسرائيلية [11] تتحدث عن «فتح فصل جديد في العلاقات الثنائية»، حتى وهو يشهد مجازر يومية في غزة.
إيران أيضاً خارج الحسابات
كثيرون اعتقدوا أنّ الصين قد تقف مع إيران في حال تصعيدها مع إسرائيل. لكن الواقع يؤكد العكس: بيجينغ حريصة على تجنّب أي مواجهة تُستنزف فيها مع الولايات المتحدة [12]. الصين دولة تراكم قوتها الاقتصادية والعسكرية، وليست مستعدة لخوض حروب «جانبية» في الشرق الأوسط. لذلك، ستظل أقصى تحركاتها في إطار الوساطات الشكلية وصناعة «الانطباع» بأنها بديل حضاري للغرب.
وهم البديل
كيف، إذاً، استقر في الوعي العربي أنّ الصين بديل أفضل من أميركا؟ الجواب يكمن في سياسة «خلق الانطباع». بيجينغ بارعة في اقتناص اللحظات الإعلامية (مثل إعلان بيجينغ المصالحة بين الفصائل الفلسطينية) [13] وتقديم نفسها كوسيط سلام، بينما على الأرض تعمّق علاقتها مع إسرائيل. تماماً كما فعلت بريطانيا حين وعدت العرب بالتحرّر من العثمانيين [14]، وكما فعلت أميركا حين قدّمت نفسها كمعادية للاستعمار الأوروبي [15]، ها هي الصين تكرّر السردية ذاتها: خطاب معادٍ للهيمنة يهدف أساساً إلى بناء هيمنة جديدة.
خاتمة
ما تكشفه الوقائع ليس مجرد انحياز صيني لإسرائيل، بل تورّط فعلي في مشروعها الاستيطاني والعدواني. الفرق بين أميركا والصين اليوم ليس في الجوهر، بل في المرحلة: الأولى هي المهيمن القائم، والثانية تسعى إلى أن تصبح المهيمن القادم. أمام هذه الحقيقة، لا بد من مراجعة عربية جذرية للتصورات السائدة: الرهان على الصين كبديل أخلاقي أو إستراتيجي ليس إلا وهماً جديداً، يُضاف إلى سلسلة أوهام كبرى عاشها العرب مع كل قوة صاعدة عبر التاريخ.
المراجع:
[1] رسالة صن يات سن إلى عزرا خضوري (1920).
[2] تقرير الأمم المتحدة عن الشركات المتورطة في المستوطنات (2019).
[3] Jonathan Goldstein (ed.), The Jews of China, vol. II, Routledge, 2000.
[4] تقارير أرشيفية للأمم المتحدة وخطابات ماو تسي تونغ وشو إن لاي (1960s).
[5] Aron Shai, The Fate of British and French Firms in China, 1949–54, Palgrave, 1996.
[6] وزارة الخارجية الصينية (MFA): بيانات وخطابات رسمية منذ 1992.
[7] UN Human Rights Council, Report A/HRC/43/71, 2019.
[8] تقارير Haaretz (2014) وحملة BDS حول شركة «أهافا»، وبيانات ChemChina (2016).
[9] بيانات وتصريحات وزارة الخارجية الصينية حول حرب غزة (2023–2024).
[10] وزارة الخارجية الصينية، وثيقة «الهيمنة الأميركية ومخاطرها (2023)».
[11] مقالات السفير الصيني في Jerusalem Post و Yedioth Ahronoth بين 2023–2024.
[12] رزان شوامرة، «الصين والصهيونية: الأنماط التاريخية والدلالات المعاصرة»، مجلة دراسات الشرق الأوسط (2025).
[13] تغطية إعلامية لإعلان بيجينغ بين الفصائل الفلسطينية (2023).
[14] المراسلات البريطانية – العربية خلال الحرب العالمية الأولى (مراسلات مكماهون – حسين).
[15] خطابات أميركية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (ترومان وأيزنهاور).
* كاتب لبناني


تعليقات