من بنية المخزن إلى ذهنية المخزن

لم تعد المَخْزَنَة مجرد بنية سلطوية مادية، بل تحولت إلى ذهنية استوطنت معظم التنظيمات السياسية والجمعوية والتربوية والثقافية...

احدى مظاهرات 20 فبراير 2011 بالمغرب
فؤاد هراجة
في المشرق دأب السياسيون على نعت السلطة الخفية التي تتحكم في البلاد بالدولة العميقة، وعندنا في المغرب اعتدنا  أن نسمي السلطة الهلامية التي تَحُلُّ بكل مجالات تدبير الحياة بالمخزن. وهو مصطلح قديم ظهر مع الدولة السعدية في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وبقيت بنيته الظاهرة الخفية قائمة رغم سقوط هذه الدولة سنة 1659، ثم تطور في صورته الكولونيالية ليصبح بنية سلطوية تابعة لسلطة  إمبريالية خارجية لم تترك السلطة بمغادرة جيوشها للبلاد، وإنما تركت من يقوم نيابة عنها بهذه المهمة مقابل إسناده وتزكية أفعاله، وغض الطرف عن استبداده وجميع انتهاكاته. وبهذا التحول دشنت الدولة المخزنية التاريخية انتقالها من دولة مخزنية  تستبد وتهيمن على السلطة بهدف التوسع الخارجي كما كان الحال مع الدول التي تعاقبت على المغرب، إلى دولة مستبدة ومهيمنة على الداخل من أجل خدمة المتحكم الإمبريالي الخارجي. ولضمان هذه السَّوْرَةِ السياسية، اعتمدت دولة المخزن بنية هرمية جمعت بين السلطة المادية( العنف) والسلطة المعنوية الناعمة ( الدين/ النسب/ العلم/ الجاه...).
 ومع تجذر السلطة المخزنية في كل دواليب ومؤسسات الدولة، ومع توظيف اقتصاد الريع، وأمام تحويل السياسة إلى غنائم وفرص للاغتناء كما يؤكد على ذلك عالم الاجتماع ماكس فيبر، ومع تحول الولاء إلى شرط لتَسلُّق المناصب وتزَعُّم الأحزاب... الخ، لم يعد المخزن مجرد بنية إدارية هرمية، بل أضحى ذهنية وخَلْفِيَةٍ تتحكم وتُوجِّه نمط تفكير الناس واختياراتهم؛ بالتالي لم يعد تأثير فعل "المَخْزَنَةِ" يقتصر فقط على الموالين للمؤسسة المخزنية والمُسْتَلَبين بسياساتها المستبدة، بل تعداه ليشمل أيضا المعارضين لها. 
على ذلك، لم تعد المَخْزَنَة مجرد بنية سلطوية مادية، بل تحولت إلى ذهنية استوطنت معظم التنظيمات السياسية والجمعوية والتربوية والثقافية...، بحيث أصبحت وظيفتها إعادة إنتاج نفس العلاقات المخزنية القائمة على قاعدة المُهيمِن والمُهيمَن عليه. وهذا التقمص من قِبل المعارضة لذهنية المخزن - في نظري- يعتبر أهم عامل ساعد من جهة، نظام المخزن على بقائه واستمرار سطوته على كل مفاصل الحكم؛ كما ساهم من جهة أخرى في إفشال كل محاولات التغيير التي تبنتها نفس التنظيمات المناهضة لسلطة المخزن، لأنها وبكل بساطة لم تتخلص داخل بنيتها من روح وذهنية الجهة التي تحاربها، بل أصبحت دون أن تعي أو تدرك  تدعو بلسان حالها ومقامها كل من تستقطبهم أو لا تستقطبهم إلى تثمين فعل "المَخْزنَة" وجعلهم يفضلون الارتماء في أحضان الاستبداد الرسمي مادام المآل واحد يتمثل في تلقي فعل الاستبداد. 
لقد تنبه عالم الاجتماع بيبر بورديو ونبه إلى هذه المعضلة أثناء معالجته لإشكالية السلطة، حين اعتبر أن السياسة بطبيعتها تنتمي إلى العَالَمِ الاجتماعي، وأن السلطة تشكل نقطة ارتكاز لفهم السياسة، وأن السلطة تُفهَم من داخل حقلها ثم في علاقتها بسائر حقول المجتمع، وأن فهم العالَم الاجتماعي متوقف  على فهم كيفية اشتغال آليات السلطة داخل هذه الحقول، ولكي يتحقق هذا الأمر، من الضروري تحديد  العلاقة الجدلية التي تربط هذه الحقول بالسلطة المركزية. فالسلطة في نظر بورديو ليست شيئا متموضعا في مكان ما( رئيس/ حكومة/ برلمان/ قضاء...)، وإنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة تخضع لقانون  ”المُهَيْمِنُ“ و”المُهَيْمَنُ عليه“، وبالتالي فإن تبني هذا القانون من طرف أي تنظيم غايته تقويض أركان الاستبداد المخزني، أثناء تدبيره لسُلَطِهِ الداخلية، سواء على مستوى الهياكل أو على مستوى آليات اتخاذ القرار، فإنه يتحول بقوة ممارسته هذه إلى أداة مخزنية تعيد إنتاج نفس العلاقة مع السلطة التي يسعى المخزن إلى تكريسها. وتأكيدا لهذا التمشي يكفي المتابع البسيط أن ينظر إلى زعماء الأحزاب التي ترفع شعار التغيير والإصلاح، كيف تخلد في كراسيها، وإلى المناصب كيف تتحكم فيها الولاءات بدل الكفاءات، وإلى منابرها الإعلامية التي تحابي هذا الوجه عن ذاك لاعتبارات لا علاقة لها بلكفاءة والمهنية.
 إن التنظيمات المناهضة للمخزن تبرر أحيانا استبدادها الداخلي بذريعة حفظ التنظيم من استبداد المخزن، وهو تناقض يَعْسُرُ هَضْمُه من طرف العقول والقلوب اليقظة داخل كل التنظيمات والهيئات لأنها تعي جيدا أن مصلحة أي تنظيم تكمن في اكتشاف الطاقات وتحرير المبادرات، من خلال توسيع فضاء التداول والمشورة، ومن خلال فتح طريق سيار لكل من انفلقت فسيقة كفاءته عوض إقبارها في الأزقة الملتوية. وبناء على كل هذه الاعتبارات نقول، إن المعارضة الحقيقية للمخزن تبدأ بالخروج من دائرة سلطته والتحرر من الدوران في فلكه كدوران الإلكترونات على النواة، ثم التأسيس لآليات تضع قطيعة تامة مع طبائع الاستبداد المخزنية. وبكلمات أُخَر، يتوجب إحداث قطيعة مع معادلة الغنائم والمناصب المشروطة بالولاء والإذعان للزعيم، وقطيعة مع الوصاية والهيمنة المادية والرمزية على إرادة الاختيار والاختلاف، على أن يتبنى هذا التأسيس حقيقة وليس شعارا قيم الحرية والاختلاف واستقلالية الفرد، على أرض تواصلية تشاورية تسلك مسلكا بعيدا عن التمخزن الذي يقدم الولاء على الكفاءة.
 إن الرهان لتقويض البنى المادية والمعنوية للمخزن، يقوم على الانعتاق أولا وقبل كن شيء من ذهنية المخزن التي تسربت إلى بنية التفكير وأصبحت مُحَايِثَة لأذهان المعارضين للاستبداد، بل وخلفية لكل ممارساتهم باسم مصلحة الحزب أو الهيئة أو المؤسسة، وهو ذات الشعار الذي يرفعه المخزن ذاته لتبرير استبداده من خلال عبارة "المصلحة العليا للوطن". فلا مناص إذن، لكل التنظيمات المعارضة التواقة إلى التغيير، من إحداث قطيعة سياسية وتدبيرية مع ذهنية المخزن، علها تستطيع في مربعها أن تقدم من جهة، الحجة على صدق ما تدعو إليه، ومن جهة أخرى تعرض إجرائيا الصورة التي ينبغي أن تقوم عليها السياسة في البلاد. دون هذه القطيعة ستظل هذه التنظيمات تفتل في نفس الحبل الذي يخنق به المخزن الأعناق وتقويه.
 لقد استقبل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه بكل غنائه في الإسلام عبارة "أنت امرؤ فيك جاهلية" بِنَفْسٍ متواضعة، فقام  يُمَرِّغُ وجهه في الأرض تحت قدم بلال بن رباح رضي الله عنه، حتى يحرر هذه النفس من بقايا جاهليتها، وقياسا عليه يتوجب على كل تنظيم أن يعترف بما فيه من مخزنية، فيمرغ آليات اشتغاله في حرية حقيقية للرأي والتعبير، بالقَدْرِ الذي يجعل ذهنية المخزن مقرفة ومنبوذة وغير مقبولة . بهذه المزايلة المشروطة، وبهذا السمت السياسي، يمكن لهذه الهيئات أن تبدأ الخطوة الأولى نحو تغيير حقيقي منشود. أما المخزن الذي تطبع على الاستبداد والاستحواذ، فمن الوهم والسذاحة والبَلَه أن  نأمل وننتظر ذات صباح أنه سوف يبادر من تلقاء نفسه ويضع عنه لباس الاستبداد والمخزنة، ويتدثر بثياب دولة الحق والقانون والمؤسسات، فما مثل الذي ينتظر هذا  الوهم إلا كمثل من ينتظر أن يتحول السرابُ ماءّ؛ انتظر! حتما ستموت عطشا!
ولنتذكر جميعا أن طريق التحرر الشامل مدخلها تقويض الاستبداد وبنية الاستبداد وذهنية الاستبداد، فلا اقتحم العقبة وما ادراك ما العقبة!

التعليقات

الاسم

أجناس صحفية,28,اخبار العالم,2054,اخبار العرب,1756,اخبار المغرب,6560,أرشيف,10,اسبانيا,186,أستراليا,1,اسكوبار الصحراء,8,إضاءة,1,إطاليا,5,إعلام,308,إعلام فرنسي,5,إفريقيا,60,اقتصاد,1016,أقلام,15,الإتحاد الأوروبي,9,الأخيرة,1,الأردن,1,الإمارات,3,الأمم المتحدة,24,البرازيل,12,الجزائر,305,السعودية,15,الصحة,119,الصين,26,ألعراق,1,العراق,5,الفضاء,1,القدس,4,ألمانيا,23,المراة,129,المكسيك,1,الملف,25,النمسا,1,ألهند,1,الهند,2,الولايات المتحدة الأمريكية,78,اليمن,25,إيران,53,ايطاليا,1,باكستان,1,برشلونة,1,بريطانيا,1,بلجيكا,7,بيئة,16,تاريخ,5,تحقيق,1,تحليل,2,تدوين,767,ترجمة,1,تركيا,20,تغريدات,31,تغريدة,6,تقارير,1304,تقرير صحفي,76,تونس,91,ثقافة,2,جنوب إفريقيا,4,جنين,1,حرية,390,حزب الله,17,حماس,6,حوارات,80,ذكرى,2,روسيا,78,رياضة,378,زاوية نظر,41,زلزال الحوز,75,سوريا,14,سوسيال ميديا,21,سوشال ميديا,16,سياحة,3,سينما,30,شؤون ثقافية,452,صحافة,87,صحة,579,صوت,1,صوت و صورة,913,طاقة,26,طقس,1,عالم السيارات,1,عداد البنزين,5,عزة,2,علوم و تكنولوجيا,316,عناوين الصحف,322,غزة,127,فتح,1,فرنسا,189,فلسطين,4,فلسطين المحتلة,664,فنون,243,قطر,3,كاريكاتير,9,كأس العالم,108,كتاب الراي,1944,كولومبيا,1,لبنان,24,ليبيا,34,مجتمع,1282,مجنمع,10,مختارات,128,مدونات,5,مسرح,6,مشاهير,1,مصر,9,مغاربي,1051,ملف سامير,8,ملفات,52,منوعات,410,موريتانيا,16,مونديال,1,نقارير,2,نقرة على الفايس بوك,1,نيكاراغوا,1,
rtl
item
الغربال أنفو | موقع إخباري: من بنية المخزن إلى ذهنية المخزن
من بنية المخزن إلى ذهنية المخزن
لم تعد المَخْزَنَة مجرد بنية سلطوية مادية، بل تحولت إلى ذهنية استوطنت معظم التنظيمات السياسية والجمعوية والتربوية والثقافية...
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhnK0EDWZ78ay4Zp_xe3Y3IwsjLs4VUVvF73QXH7437QzH9TBYbYfUqlJDditS6KQfx_YgVJsyPjJjIIG3_J-A_RT39iMc3U6SAQSSlOMPkdxHlZE_X8UXAZZDjM5kgEJ2S0tI70F9VTo7SmYLGifUvkrqjF3lgp3qgsoELXBd5riApIiIAsm7dOK3PET0/w640-h418/000_8404R.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhnK0EDWZ78ay4Zp_xe3Y3IwsjLs4VUVvF73QXH7437QzH9TBYbYfUqlJDditS6KQfx_YgVJsyPjJjIIG3_J-A_RT39iMc3U6SAQSSlOMPkdxHlZE_X8UXAZZDjM5kgEJ2S0tI70F9VTo7SmYLGifUvkrqjF3lgp3qgsoELXBd5riApIiIAsm7dOK3PET0/s72-w640-c-h418/000_8404R.jpg
الغربال أنفو | موقع إخباري
https://www.alghirbal.info/2024/05/blog-post_14.html
https://www.alghirbal.info/
https://www.alghirbal.info/
https://www.alghirbal.info/2024/05/blog-post_14.html
true
9159330962207536131
UTF-8
تحميل جميع الموضوعات لم يتم إيجاد اي موضوع عرض المزيد التفاصيل الرد الغاء الرد مسح بواسطة الرئيسية بقية أجزاء المقال: موضوع العرض الكامل مقالات في نفس الوسم قسم أرشيق المدونة بحث جميع الموضوعات لم يتم العثور على اي موضوع الرجوع الى الصفحة الرئيسية الأحد الأثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت شمس اثنين ثلاثاء اربعاء خميس جمعة سبت يناير فبراير مارس ابريل ماي يونيو يوليوز غشت شتنبر اكتوبر نوفمبر دجنبر يناير فبراير مارس ابريل ماي يونيو يوليوز غشت شتنبر اكتوبر نوفمبر دحنبر في هذه اللحظة 1 منذ دقيقة $$1$$ منذ دقيقة 1 منذ ساعة $$1$$ منذ ساعة أمس $$1$$ منذ يوم $$1$$ منذ ساعة منذ أكثر من 5 أسابيع متابعون يتبع هذا المقال المميز مقفل لمواصلة القراءة.. أولا شاركه على: ثانيا: انقر فوق الرابط الموجود على الشبكة الاجتماعية التي شاركت معها المقال انسخ كل الأكواد Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy عناوين ثانوية