لم تعد المَخْزَنَة مجرد بنية سلطوية مادية، بل تحولت إلى ذهنية استوطنت معظم التنظيمات السياسية والجمعوية والتربوية والثقافية...
![]() |
احدى مظاهرات 20 فبراير 2011 بالمغرب |
![]() |
فؤاد هراجة |
ومع تجذر السلطة المخزنية في كل دواليب ومؤسسات الدولة، ومع توظيف اقتصاد الريع، وأمام تحويل السياسة إلى غنائم وفرص للاغتناء كما يؤكد على ذلك عالم الاجتماع ماكس فيبر، ومع تحول الولاء إلى شرط لتَسلُّق المناصب وتزَعُّم الأحزاب... الخ، لم يعد المخزن مجرد بنية إدارية هرمية، بل أضحى ذهنية وخَلْفِيَةٍ تتحكم وتُوجِّه نمط تفكير الناس واختياراتهم؛ بالتالي لم يعد تأثير فعل "المَخْزَنَةِ" يقتصر فقط على الموالين للمؤسسة المخزنية والمُسْتَلَبين بسياساتها المستبدة، بل تعداه ليشمل أيضا المعارضين لها.
على ذلك، لم تعد المَخْزَنَة مجرد بنية سلطوية مادية، بل تحولت إلى ذهنية استوطنت معظم التنظيمات السياسية والجمعوية والتربوية والثقافية...، بحيث أصبحت وظيفتها إعادة إنتاج نفس العلاقات المخزنية القائمة على قاعدة المُهيمِن والمُهيمَن عليه. وهذا التقمص من قِبل المعارضة لذهنية المخزن - في نظري- يعتبر أهم عامل ساعد من جهة، نظام المخزن على بقائه واستمرار سطوته على كل مفاصل الحكم؛ كما ساهم من جهة أخرى في إفشال كل محاولات التغيير التي تبنتها نفس التنظيمات المناهضة لسلطة المخزن، لأنها وبكل بساطة لم تتخلص داخل بنيتها من روح وذهنية الجهة التي تحاربها، بل أصبحت دون أن تعي أو تدرك تدعو بلسان حالها ومقامها كل من تستقطبهم أو لا تستقطبهم إلى تثمين فعل "المَخْزنَة" وجعلهم يفضلون الارتماء في أحضان الاستبداد الرسمي مادام المآل واحد يتمثل في تلقي فعل الاستبداد.
لقد تنبه عالم الاجتماع بيبر بورديو ونبه إلى هذه المعضلة أثناء معالجته لإشكالية السلطة، حين اعتبر أن السياسة بطبيعتها تنتمي إلى العَالَمِ الاجتماعي، وأن السلطة تشكل نقطة ارتكاز لفهم السياسة، وأن السلطة تُفهَم من داخل حقلها ثم في علاقتها بسائر حقول المجتمع، وأن فهم العالَم الاجتماعي متوقف على فهم كيفية اشتغال آليات السلطة داخل هذه الحقول، ولكي يتحقق هذا الأمر، من الضروري تحديد العلاقة الجدلية التي تربط هذه الحقول بالسلطة المركزية. فالسلطة في نظر بورديو ليست شيئا متموضعا في مكان ما( رئيس/ حكومة/ برلمان/ قضاء...)، وإنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة تخضع لقانون ”المُهَيْمِنُ“ و”المُهَيْمَنُ عليه“، وبالتالي فإن تبني هذا القانون من طرف أي تنظيم غايته تقويض أركان الاستبداد المخزني، أثناء تدبيره لسُلَطِهِ الداخلية، سواء على مستوى الهياكل أو على مستوى آليات اتخاذ القرار، فإنه يتحول بقوة ممارسته هذه إلى أداة مخزنية تعيد إنتاج نفس العلاقة مع السلطة التي يسعى المخزن إلى تكريسها. وتأكيدا لهذا التمشي يكفي المتابع البسيط أن ينظر إلى زعماء الأحزاب التي ترفع شعار التغيير والإصلاح، كيف تخلد في كراسيها، وإلى المناصب كيف تتحكم فيها الولاءات بدل الكفاءات، وإلى منابرها الإعلامية التي تحابي هذا الوجه عن ذاك لاعتبارات لا علاقة لها بلكفاءة والمهنية.
إن التنظيمات المناهضة للمخزن تبرر أحيانا استبدادها الداخلي بذريعة حفظ التنظيم من استبداد المخزن، وهو تناقض يَعْسُرُ هَضْمُه من طرف العقول والقلوب اليقظة داخل كل التنظيمات والهيئات لأنها تعي جيدا أن مصلحة أي تنظيم تكمن في اكتشاف الطاقات وتحرير المبادرات، من خلال توسيع فضاء التداول والمشورة، ومن خلال فتح طريق سيار لكل من انفلقت فسيقة كفاءته عوض إقبارها في الأزقة الملتوية. وبناء على كل هذه الاعتبارات نقول، إن المعارضة الحقيقية للمخزن تبدأ بالخروج من دائرة سلطته والتحرر من الدوران في فلكه كدوران الإلكترونات على النواة، ثم التأسيس لآليات تضع قطيعة تامة مع طبائع الاستبداد المخزنية. وبكلمات أُخَر، يتوجب إحداث قطيعة مع معادلة الغنائم والمناصب المشروطة بالولاء والإذعان للزعيم، وقطيعة مع الوصاية والهيمنة المادية والرمزية على إرادة الاختيار والاختلاف، على أن يتبنى هذا التأسيس حقيقة وليس شعارا قيم الحرية والاختلاف واستقلالية الفرد، على أرض تواصلية تشاورية تسلك مسلكا بعيدا عن التمخزن الذي يقدم الولاء على الكفاءة.
إن الرهان لتقويض البنى المادية والمعنوية للمخزن، يقوم على الانعتاق أولا وقبل كن شيء من ذهنية المخزن التي تسربت إلى بنية التفكير وأصبحت مُحَايِثَة لأذهان المعارضين للاستبداد، بل وخلفية لكل ممارساتهم باسم مصلحة الحزب أو الهيئة أو المؤسسة، وهو ذات الشعار الذي يرفعه المخزن ذاته لتبرير استبداده من خلال عبارة "المصلحة العليا للوطن". فلا مناص إذن، لكل التنظيمات المعارضة التواقة إلى التغيير، من إحداث قطيعة سياسية وتدبيرية مع ذهنية المخزن، علها تستطيع في مربعها أن تقدم من جهة، الحجة على صدق ما تدعو إليه، ومن جهة أخرى تعرض إجرائيا الصورة التي ينبغي أن تقوم عليها السياسة في البلاد. دون هذه القطيعة ستظل هذه التنظيمات تفتل في نفس الحبل الذي يخنق به المخزن الأعناق وتقويه.
لقد استقبل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه بكل غنائه في الإسلام عبارة "أنت امرؤ فيك جاهلية" بِنَفْسٍ متواضعة، فقام يُمَرِّغُ وجهه في الأرض تحت قدم بلال بن رباح رضي الله عنه، حتى يحرر هذه النفس من بقايا جاهليتها، وقياسا عليه يتوجب على كل تنظيم أن يعترف بما فيه من مخزنية، فيمرغ آليات اشتغاله في حرية حقيقية للرأي والتعبير، بالقَدْرِ الذي يجعل ذهنية المخزن مقرفة ومنبوذة وغير مقبولة . بهذه المزايلة المشروطة، وبهذا السمت السياسي، يمكن لهذه الهيئات أن تبدأ الخطوة الأولى نحو تغيير حقيقي منشود. أما المخزن الذي تطبع على الاستبداد والاستحواذ، فمن الوهم والسذاحة والبَلَه أن نأمل وننتظر ذات صباح أنه سوف يبادر من تلقاء نفسه ويضع عنه لباس الاستبداد والمخزنة، ويتدثر بثياب دولة الحق والقانون والمؤسسات، فما مثل الذي ينتظر هذا الوهم إلا كمثل من ينتظر أن يتحول السرابُ ماءّ؛ انتظر! حتما ستموت عطشا!
ولنتذكر جميعا أن طريق التحرر الشامل مدخلها تقويض الاستبداد وبنية الاستبداد وذهنية الاستبداد، فلا اقتحم العقبة وما ادراك ما العقبة!
تعليقات