مظاهر الصراع والفرقة والشتات، التي باتت تعم الشمال الافريقي، من أدناه إلى أقصاه صارت تنعكس وبشكل تام حتى على قبول واستيعاب الفكرة المغاربية...
![]() |
مقر اتحاد المغرب العربي (الويب) |
![]() |
نزار بولحية |
وإن واجه من تبقى من هؤلاء كل ذلك وحاصرتهم الانتقادات وتعرضوا إلى حملات ازدراء وتشكيك، فما الذي ينبغي عليهم فعله حينها؟ هل عليهم التسليم بالأمر الواقع والانسحاب في صمت؟ أم ينبغي عليهم البقاء في الطريق المعقد والصعب الذي اختاروه، رغم علمهم بما قد ينتظرهم فيه غدا من عقبات إضافية؟ لا شك أن كل واحد منهم سيواجه مثل ذلك التحدي، وسيكون عليه أن يقرر مصيره بنفسه، ومن الواضح أن الأمر لا يبدو سهلا أو بسيطا بالمرة، فمظاهر الصراع والفرقة والشتات، التي باتت تعم الشمال الافريقي، من أدناه إلى أقصاه صارت تنعكس وبشكل تام حتى على قبول واستيعاب الفكرة المغاربية، في حد ذاتها، داخل الإقليم.
وهنا فإن الأمين العام الجديد لاتحاد المغرب العربي، يمثل وبحكم موقعه الاعتباري على الأقل، صورة حية لذلك الوضع، ولعل أول ما يلفت الانتباه في هذا الصدد هو، أن الرجل غائب أو مغيب عن الأضواء منذ استلامه المنصب قبل عام، وربما باستثناء لقاء وحيد جمعه قبل فترة بالرئيس الموريتاني ومصافحة سريعة جرت بينه وبين العاهل المغربي، خلال تقديم التهاني بعيد الأضحى، فإن اسمه يكاد لا يظهر في وسائل إعلام الدول المغاربية الأخرى. والسؤال الذي يطرحه ذلك هو، هل بمقدوره الآن ورغم ذلك أن يغير مسار الأحداث وأن يكتب تاريخا جديدا للمنطقة، ويخرج عن الدور الصوري والشكلي الذي حدد له؟ كثيرون قد يقولون إن ذلك يبدو صعبا، بل غير ممكن، لكن ما الذي سيحصل إن حاول الدبلوماسي التونسي القيام بذلك، وأعلن مثلا عن أنه ومن موقعه كأمين عام لذلك الاتحاد، لم يعد مستعدا لأن يصمت أمام ما يراه من مظاهر مزرية ومخجلة تتعارض بشكل تام مع مبادئ الاتحاد، وتضربها في العمق، من قبيل غلق الحدود بما فيها الجوية بين بلدين مغاربيين، وتعمق القطيعة والعداء بينهما بشكل ينذر باشتعال حرب هوجاء في الإقليم في أي وقت، وإنه لن يكون من الآن فصاعدا شاهد زور على ما يحصل في المنطقة المغاربية؟ وماذا إن غادر بعد ذلك مكتبه ومعه خمسة من مساعديه، من مختلف الأقطار المغاربية، ووقف في مؤتمر صحافي ليطلق مبادرة رمزية وهي، الذهاب مع الوفد المرافق له وعلى متن حافلة صغيرة في رحلة برية في الشمال الافريقي يكون الهدف منها هو تكريس كل شعارات الأخوة والتضامن والمصير المغاربي المشترك، التي بقيت تتردد فقط بين الحين والآخر، وفي بعض المناسبات المعدودة، وتكون نقطة انطلاقها هي الرباط، لتتجه منها إلى نواكشوط، قبل أن تعود من هناك مجددا إلى العاصمة المغربية لتقصد بعدها الجزائر ثم تونس، إلى أن تصل في مرحلتها الختامية إلى طرابلس؟ لعل هناك من سيعتبر أن الأمين العام سيضع عدة اعتبارات في الميزان، فهو إن فكر بعقلانية، وترك العواطف جانبا، فإنه سيدرك لا محالة أن تلك الفكرة تبدو وفي هذا الظرف بالذات سريالية للغاية، وغير قابلة أصلا للتنفيذ، لسببين على الأقل، ففضلا عن أن الحدود البرية الجزائرية المغربية مغلقة منذ اكثر من ثلاثين عاما بقرار أحادي الجانب، أخذته الجزائر منتصف التسعينيات، وبالتالي فهي لن تسمح تحت أي مبرر بخرقه، وسترى ومن دون شك في أي تصرف من ذلك النوع عملا غير مقبول بالنسبة لها، ولن يكون مستبعدا في ذلك الحين أن تتهم جارتها الغربية بالوقوف وراءه، فإنه ليس مؤكدا بعد أن الدول الخمس ستتحمس كلها لاستقبال الأمين العام للاتحاد المغاربي بتلك الطريقة التي قد تمثل في نظر البعض منها خروجا غير معهود عن القواعد والأعراف والأساليب وحتى عن هامش الحركة المحدود الذي ضبط له.
لكن ما الذي سيخسره طارق سالم إن حاول الخروج من المربع الضيق الذي وضع فيه؟ إنه لن يخاطر في ذلك الوقت فقط بفقدان منصبه، بل سينظر إليه البعض على انه كان مجرد أداة لخدمة توجهات وأهداف دولة مغاربية على حساب أخرى، ولن يقرأ أحد حسن النية، أو نبل الدافع الذي جعله يفكر في كسر حالة الرتابة والجمود، وإنهاء قطيعة غير مبررة أو مقبولة بين بلدين شقيقين، ما يجمعهما أكبر بكثير مما قد يفرق بينهما. وهذا وللأسف الشديد لا ينطبق على سالم وحده، بل على كل من يختار أن يكون مغاربيا. فكما يمكن أن يقال للأمين العام لاتحاد المغرب العربي إنه قد تجاوز صلاحياته، فإنه يمكن أن يقال أيضا لأي ليبي أو تونسي أو جزائري أو مغربي أو موريتاني، يطرح فكرة أو تصورا أو مشروعا للتقارب بين شعوب ودول المنطقة، إنه قد تجاوز خطا أحمر وهو مصلحة بلده، فقد بات المطلوب اليوم ممن ولد في ليبيا أو تونس أو الجزائر أو المغرب أو موريتانيا، أن يكتفي بأن يكون فقط ليبيا أو تونسيا أو جزائريا أو مغربيا أو موريتانيا. وبطريقة ما فإن الأجيال الشابة في البلدان الخمسة صارت تتربى ومنذ نعومة أظفارها، لا على فكرة أنها تنتمي إلى رقعة حضارية وجغرافية واحدة هي المغرب الكبير، بل فقط على انها تنتسب إلى تلك البلدان. لكن هل يتعارض الانتماءان مع بعضهما بعضا؟ وهل بوجود أحدهما ينتفي الآخر؟ في وقت ما لم يكن الجمع بينهما يطرح أي إشكال، فقد كانت الأمور محسومة وواضحة داخل الوجدان الجماعي لأهالي الشمال الافريقي، حتى بعد أن فصلت بينهم الخرائط والحدود الاعتباطية التي رسمها الاستعمار. فأي ليبي أو تونسي أو جزائري أو مغربي أو موريتاني كان يظل وفي كل الأحوال، وفي جزء منه، مغاربيا بالضرورة، ولم يكن أحد يجرؤ على أن يقول لجزائري ما شأنك بليبيا أو لتونسي ما علاقتك بالجزائر؟ أو لمغربي ما دخلك بشنقيط؟ بل كان الأمر على العكس تماما، فعندما غزت إيطاليا ليبيا في بداية القرن الماضي، آزر التونسيون الذين كانوا يرزحون تحت الاستعمار الفرنسي الليبيين، وعندما أعلن عن استقلال تونس والمغرب حدث الشيء نفسه واستمر دعم واهتمام الشعبين التونسي والمغربي بالثورة الجزائرية.
فما الذي حصل إذن وكيف انقلبت الموازين بعدها؟ هل أدى الإفراط في النزعة الوطنية إلى ضرب الروح المغاربية؟ أم كانت الخيبات والتجارب الوحدوية الفاشلة هي السبب في ذلك؟ في كل الأحوال فإن عملا شاقا ينتظر المغاربيين غدا ليحموا أنفسهم أولا من خطر الاندثار الوشيك.
كاتب وصحافي من تونس
تعليقات