عقود من التفريق المتعمد بين المشارقة والمغاربة، ورغم الحديث عن «الأمّة الواحدة» إلا أن الحكومات، واحدة من مهامها تفريق الشعوب الموحدة، لما في ذلك ....
![]() |
باب المغاربة بالقدس المحتلة |
![]() |
أبهم السهلي* |
هناك في مغرب الوطن العربي شعب عربي نكاد لا نعرفه، نحن في مشرق الوطن العربي. وربما بعضنا يشعر أن لهجتهم العربية تجعل القطع بيننا وبينهم وارد وقائم، فنحن لا نفهمهم جيداً! وهذا غير صحيح، نحن بوسعنا أن نفهمهم بسهولة لو أردنا.
هؤلاء بنو تاريخنا ولغتنا، أهلنا وناسنا، علاقتهم التاريخية بفلسطين وقضيتها، تجعلهم من الأحرص عليها، أتوا إلى فلسطين منذ أكثر من 700 عام، وأنشئت لأجلهم حارة المغاربة في القدس، وابن صلاح الدين الأيوبي، الأفضـل نور الدين وقف حارة المغاربة بأكملها على المغاربة من دون تمييز بين أصولهم. وهذه الحارة ظلت صامدة ما بين 1187 حتى 1967، لما أتمت إسرائيل احتلال القدس، فأجهزت على شرق المدينة في حرب 5 حزيران. وأول ما فعلته إسرائيل حينها، في حزيران 1967، أبلغت سكان حارة المغاربة بضرورة إخلاء منازلهم خلال ساعتين، ومن لم يمتثل للأوامر، أجبر على ذلك، ولسرعة تنفيذ الإنذارات، كانت هناك امرأة لم تعرف بأمر الإخلاء فدفنت تحت ركام بيتها.
في مساء 11 حزيران/ يونيو من سنة الهزيمة النكراء للعرب، هدمت إسرائيل 135 منزلاً، واستمرت عملية تهجير السكان من الحارة. وبعد تدميرها، عاد بعض سكانها إلى بلدانهم في المغرب العربي، وبعضهم ظلوا في المدينة في مخيمات اللاجئين، وفي أحياء القدس الأخرى. وصار مكان الحارة «ساحة المبكى» التي يشاهد فيها الناس اليوم المصلين اليهود فيها وهم يصلون أمام حائط البراق، أو «حائط المبكى» كما يسميه اليهود.
ليسوا هؤلاء فقط المغاربة في فلسطين، هناك مغاربة غيرهم، هجروا مع الفلسطينيين من فلسطين عام 1948، وعاشوا مثلهم كلاجئين في المخيمات، والذي يعرف مخيم اليرموك جنوب دمشق، يعرف أن فيه حارة المغاربة، وهؤلاء مثل باقي ساكني المخيم من الفلسطينيين، لجأ أهلهم إلى سوريا، وسكنوا المخيم، ويحلمون بالعودة إلى القرى والمدن التي هجروا منها في فلسطين، والذي يعرف الحارة، يتذكر علم فلسطين مرفراً إلى جانب علم الجزائر والمغرب وتونس.
في هذه الحارة تأسست فرقة أغاني العاشقين الشهيرة، في منزل عائلة الهباش، ومن هذه الحارة أيضاً خرج عشرات المناضلين، وعاد بعضهم شهداء، كما خضع بعضهم للأسر، ولم يكن في يوم من الأيام يشعر واحد منهم بأنه ليس فلسطينياً، على العكس، كان فلسطينياً في المقام الأول، لا سيما أن أجيال اللاجئين وأهلهم الذين هجروا من فلسطين، معظمهم لم يعرف مكاناً إلا فلسطين أو المخيم.
وهناك مغاربة مثل الذين قبلهم، أولئك الذين أتوا من الجزائر وتونس وليبيا والمغرب، للالتحاق بصفوف الثورة الفلسطينية، فقاتلوا من أجل فلسطين، واستشهدوا من أجلها. وهذا الفداء يعود إلى ما قبل النكبة، وفي النكبة، فمثلاً يوثق أبو سيف بو زيد الجبو في كتابه «المجاهدون العرب الليبيون في حرب فلسطين 1948/ سير وأخبار» أسماء ومعلومات لـ 279 اسماً لليبيين اشتركوا في الدفاع عن فلسطين عام النكبة، بعضهم استشهدوا فداء للأرض. وكذلك من الجزائر، هب نحو 260 شخصاً للمشاركة في رد الصهاينة عن احتلال فلسطين.
ومن بعد العام 1965، شارك شباب من مغرب الوطن العربي ضمن فصائل الثورة، فكان منهم الشهيد التونسي رياض بن الهاشمي بن جماعة، والشهيد التونسي بليغ محمد أنور اللجمي الذي استشهد في عملية فدائية في منطقة السريرة قضاء جزين في 27 كانون الثاني 1996.
والجزائر بالنسبة إلى الفلسطينيين هو البلد الذي تقتضي فيه روح النضال الفلسطينية، فالوطن الذي ناضل على مرّ 130 عاماً حتى ينال استقلاله من الفرنسيين، تشكل ثورته منارة للفلسطينيين في مواجهتهم لنيل الحرية في بلدهم. أما تونس، فهي البلاد التي استضافت الثورة الفلسطينية بعد الخروج من بيروت عام 1982. وهي التي بكى وقال في وداعها محمود درويش: «لم أسمع أبداً عاشقين يقولان شكراً.. ولكن شكراً لك لأنك أنت من أنت.. حافظي على نفسكِ يا تونس
سنلتقي غداً على أرض أختكِ فلسطين.. هل نسينا شيئاً وراءنا؟ نعم... نسينا تلفّت القلب.. و تركنا فيكِ خير ما فينا.. تركنا فيكِ شهدائنا الذين نوصيكِ بهم خيراً».
وفي تونس استشهد خليل الوزير أبو جهاد، وعدد من إخوته في عملية إسرائيلية أرادت القضاء على أحد رجالات الثورة الأنقياء. وفي المغرب العربي، لعل أحداً لن ينسى فرقة «ناس الغيوان» وأغانيها لفلسطين، ولصبرا شاتيلا التي قالت فيها: «الدنيا سكتات العدا دارت ما بغات، العرب سكتات صهيون دارت ما بغات، فصبرا وشاتيلا المجزرة الكبيرة، أطفال تذبحات شيوخ وعيالات، السوايع وقفات لكتوب تنهبات، فصبرا وشاتيلا كترت لقتيلة».
وفي أغنية القسم: «عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها.. دركوها جنة الخلد لا تفوتوها.. حبوها كيف الحياة كاملة جعلوها.. يا جنة مَا نْبَالِي يوم المَلْگى لا بد ِيبَانْ.. كل قطرة من دمنا تفور ف حق الإنسان.. فيها الهدف تبلغ ثورة يرجع الـشَّانْ.. قسماً ما يفوز صْهَاينْ كهان.. ولا مجوس ولا مبيوعْ ف كل مكان.. يا حيفا ويا يافا... طول الغربة وطول العدوان.. يا سبتة ومليلية المدن المسجـونة».
واليوم في ظل حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني على قطاع غزة، منذ نحو عشرين شهراً، وغياب الصوت العربي المشرقي عن ساحات الاحتجاج، خرج مغربنا بعد اليأس، كأنه إشراقة جديدة لأمة عربية متهالكة، يمكننا بعد أن نقول في الأمة من يتنفس وفي قلبه قلب. فلعل بعضنا يتابع التظاهرات التي تخرج في المغرب العربي / إشراقة أمّتنا، والاحتجاجات الشعبية ضد تطبيع حكومتهم مع الاحتلال.
أمّا الجديد\القديم في ضمير مغربنا هو «قافلة الصمود» التي انطلقت من تونس للوصول إلى غزة، ويلتحق فيها أهل من «إشراقة أمّتنا» من الجزائر وليبيا يصل عددهم إلى نحو ألف، جالوا في مدن تونسية، فالتحق فيها تونسيون ينوون الخروج فيها، ووصلت إلى ليبيا وهناك «تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين في ليبيا» التي تضم أكثر من 12 جمعية من مختلف المناطق الليبية. وفي ليبيا كما في تونس، تستقبل القافلة بالزغاريد وبمواد يريد الناس إيصالها إلى أهلهم في غزة. وهي الآن في طريقها إلى مصر، التي شاهدنا فيها رجلاً يبيع الفواكه السنة الماضية، يرمي ما أمكنه من فاكهة إلى شاحنة يعرف بأنها ذاهبة إلى غزة، فكان مشاركاً على طريقته، بقلبه الراحل إلى فلسطين، وبما مكّنه فقره من دعم لأهله.
رغم أن المساعدات لم يدخل إلا قليلها خلال عشرين شهراً، إلا أن كل مبادرة تحيي في نفوس الشعب الفلسطيني في غزة حياة يمكن أن تسلب في أي لحظة جراء صاروخ أو معدة خالية.
عقود من التفريق المتعمد بين المشارقة والمغاربة، ورغم الحديث عن «الأمّة الواحدة» إلا أن الحكومات، واحدة من مهامها تفريق الشعوب الموحدة، لما في ذلك من خطر عليها، ومع ذلك، تدرك الشعوب طريقها، فتذهب فيه، وتجلس الحكومات متفرجة، لعلها في مرة من المرات تكون بلا حول ولا قوة أمام شعوبها التي مهما فرقوها، توحدها فلسطين.
* صحافي فلسطيني
تعليقات