المسألة الاجتماعية لا تعني «الخدمات». تعني الإجابة عن أسئلة تعبّر عن تحوّل أعمق في بنية مجتمعاتنا اليوم؛ كيف نتعاطى مع ظاهرة «الطبقة الوسطى الجديدة ..
![]() |
بشار اللقيس* |
شخصياً، أدّعي أن أحداً لا يفكّر بالمجتمع في منطقتنا العربية (المجتمع هو «اللامفكر فيه» عربياً). حتى اليسار العربي الذي أخذ على عاتقه مهمّة التفكير في المجتمع أواسط القرن الماضي، راح منظّروه «يفتّشون» عن بذور العقلانية/ العلمانية في التاريخ الإسلامي القروسطي بدلاً من التفكير في مجتمعنا الراهن (أدبيّات حسين مروة وطيب تيزيني مثالٌ صارخ على الأمر). المجتمع غير المفكَّر فيه يسارياً، كان يدفع بمثقّفي اليسار إلى استخدام مفاهيم من مثل الطبقة وفائض القيمة بإسهاب ومن دون التدقيق في مدى تحقّق هذه المفاهيم في واقعنا (هل ثمّة شيءٌ اسمه طبقة أصلاً في واقعنا العربي؟ لست أكيداً).
على كلٍّ، كارثة عدم التفكير في المجتمع لم تكن سمة اليسار وحده. ما نعيشه اليوم من كوارث اجتماعية ذات أثر سياسي، كالطائفية، العنصرية، التطرّف، التوزيع غير العادل للثروة، كلّها مسائل من مفرزات «اللاتفكير» في المسألة الاجتماعية في رأيي. نحن لا نصارح أنفسنا بأزمات الواقع ونفضّل تجاهلها أو إلقاء اللوم فيها على الآخرين. ومرّة جديدة، ظاهرة اللاتفكير في المجتمع ليست محصورة بفئة أو جماعة معيّنة.
جانب كبير من أزمات محور المقاومة مثلاً، بل وأزمات غالبية النظم التي عارضت السياسات الأميركية (بنسب متفاوتة) في منطقتنا، من بعثَي العراق وسوريا، إلى القذافي، وصولاً إلى نظام عمر البشير (الإسلامي)، كانت في غالبها أزمات اجتماعية داخلية قبل أن تكون أزمات مع الخارج، أو لنقل، كانت أزمات اجتماعية داخلية استغلّها الخارج (في الأمم الفاشلة تذوي الحدود بين الداخل والخارج عند الأزمات).
المشكلة في عمقها لا تقف ها هنا، المشكلة هي في الإطار المفاهيمي الأحادي الجانب الذي دأبنا على تفسير الواقع عبره، كاختصارنا الأزمات في تفسيرٍ أحادي يلقي اللوم على الغرب وحده، أو يطالب الناس بالتكيّف مع الأزمة بانتظار حسم الصراع المركزي ضد الهيمنة (أحد الأصدقاء كان يقول إن إقالة رياض سلامة ضرورية، ولكن بعد كسر المشروع الصهيوني بالمنطقة)، الأمر الذي يعمّق من الأزمة بدلاً من أن يحلّها، ويزيد من حجم إنكارنا للواقع الذي نعيش. أنا هنا لا أنفي أهمّية الصراع ضد الهيمنة الغربية ومركزيته، ولكن ردّ كلّ مشكلاتنا الاجتماعية إلى «مسألة الهيمنة الغربية» وحدها، وإرجاء حلّ المشكلات بانتظار حلّ التناقض الرئيسي (على الطريقة الماوية) فيه الكثير من التجاسر على الواقع والتنكّر لما نحن فيه.
التوزيع غير العادل للثروة ليس مسألة هامشية. غياب القانون والمساءلة ليس مسألة هامشية. لست هنا بصدد تكرار أدبيات آصف بيات وحميد دباشي، عن «بسطاء الناس في العالم العربي ودورهم في تغيير الشرق الأوسط». لا، أنا هنا مع التفكير في ظاهرة تدقّ أبواب السؤال طالبةً إجابتنا كلّ يوم: هل يمكن بناء مشروع تحرير حقيقي من دون الالتفات إلى المسألة الاجتماعية؟ والمسألة الاجتماعية لا تعني «الخدمات» (مستشفيات، مدارس، مؤسسات اجتماعية)، هذا فهم اختزالي لمسألة المجتمع. المسألة الاجتماعية تعني الإجابة عن أسئلة تعبّر عن تحوّل أعمق في بنية مجتمعاتنا اليوم.
كيف نتعاطى مع ظاهرة «الطبقة الوسطى الجديدة عالمياً» (طبقة المتعلّمين من مبرمجين وأطباء ومهندسين وأساتذة جامعات ومهنيين لا تجد لها مكاناً في بنية الاقتصاد المحلّي) والتي نعاين مفرزاتها في واقعنا من دون وعي أبعادها بشكل دقيق؟ كيف نتعاطى مع شرائح وطبقات تتجاوز الحدود السياسية للبلدان، وتتطلّع إلى السياسة والعدالة والكرامة وفقاً لقيم عالمية مشتركة؟ هذه ليست أسئلة ترِفة، وعلى أصحاب مشروع «مواجهة الهيمنة» الإجابة عنها قبل سواهم.
إنّ مسائل مثل الربيع العربي والثورات الاجتماعية التي تلته، كثورة الكنداكة في السودان وتشرينَي بيروت وبغداد، ستظلّ عصيّةً على الفهم ما لم نطرح المسألة الاجتماعية قيد البحث. لا، ثورة تشرين لم تكن في الأصل مؤامرة ولا «ثورات سفارات». ثورة تشرين في لبنان تحديداً، كانت سؤالاً مستحقّاً لمجتمع امتُهنت كرامته. فأن تختلس المصارفُ أموالَ الناس، ويصل الامتهان إلى أصغر خدمة عامّة أو حقّ عامّ (الضريبة على «الواتساب»)؛ هذا بذاته هو عين «التآمر» والامتهان. وأن نعتاد العيش في ظلّ نظام عاجز عن استيعاب طاقة العمل، وعن إيجاد حدّ أدنى من حفظ الكرامة البشرية هو ما ينبغي الوقوف عنده وإيجاد حلّ له.
إنّ عدم علاج هذه المسائل هو ما سيشرّع الأبواب للغرب، ولمطاوعته في منطقتنا، للتدخّل وفرض الحلول الكارثية على النحو الذي يحصل اليوم في لبنان من فرض صندوق النقد لشرائطه على الحكومة وما من سائل ولا من مجيب.
لقد أفضت التحوّلات الاجتماعية في بلادنا تاريخياً إلى سقوط أنظمة وإمبراطوريات وولادة أخرى. وعلى الدوام، كان سوء فهم المجتمع في غير صالح أصحاب القرار (أحد أسباب سقوط السلطنة العثمانية كان في سوء فهم السلطان لظاهرة الطبقة الوسطى الجديدة التي تشكّلت مطلع القرن الماضي، والتي عبّر عنها ناشطو الجمعيات السرّية، وروّاد الفكر القومي بين الشباب. ولأنّ عبد الحميد، ومن بعده الضبّاط الاتحاديين، فضّلوا التعاطي الأمني والعسكري معها، انتهت المنازلة بين الطرفين بهزيمة السلطنة، وغيرها من الإمبراطوريات/ الممالك إلى غير رجعة).
إنّ مثل هذه التحوّلات ستُسقط مَن يعاكسها ويتصنّم في مواجهتها في كلّ مرّة، ولن يبلغ رفضها ضفّة الحلّ بأي حال.
من المجتمع وإليه تبدأ السياسة وتنتهي، ومن المجتمع وفيه تُولَدُ السياسة أو تموت. لا عناوين تعلو أحذية الفقراء في مجتمعاتنا وكرامتهم. ولا قضايا يمكن للإنسان حملها ما لم يلقَ خبزه «كفاف يومه» حاضراً.
كثيراً ما أكره الاستعارة، ولكني أجد في نصّ محمد الماغوط هذا، ما يمكن استعارته لختم المقال (النصّ هو حوارٌ افتراضي بين قاضٍ ومواطن/ متّهَم، والأخير كان قد سبّ الوطن):
«القاضي: هل كنت بتاريخ كذا، ويوم كذا، تنادي في الساحات العامّة، والشوارع المزدحمة، بأنّ الوطن يساوي حذاء؟
المتّهَم: نعم.
القاضي: وأمام طوابير العمّال والفلّاحين؟
المتّهَم: نعم.
القاضي: وأمام تماثيل الأبطال، وفي مقابر الشهداء؟
المتّهَم: نعم.
القاضي: الوطن حلم الطفولة، وذكريات الشيخوخة، وهاجس الشباب، ومقبرة الغزاة والطامعين، والمفتدى بكلّ غالٍ ورخيص، لا يساوي بنظرك أكثر من حذاء؟ لماذا؟ لماذا؟
المتّهَم: لقد كنت حافياً يا سيدي».
* موقع الكاتب على إكس
تعليقات