هم الذين تمنّنوا علينا منذ 2011 بأسطورة الاحتلال الإسرائيلي الرحيم بالمقارنة مع النظام السوري المستبد و بكوا نسيان العالم لسوريا -أثناء الإبادة في غزة
يجد البعض لغزاً في اختيار صادق جلال العظم التحالف مع الإسلاميين بعد عام 2011 وقد كان يكرههم بشدة، وفي عدم ولائه للحاكم المستشرق ذي التعليم الغربي الذي يجلد الإسلاميين. في الواقع، ذاك التوجّه لم يتناقض مع فكر العظم. اندلعت ثورة في سوريا دعَمها الغرب ضد «مستبد شرقي» محددة خصائصه مسبقاً في أدبيات استشراق الحرب الباردة. أوليس هذا بامتياز تطبيقاً رومانسياً ثورياً للاستشراق العظميّ؟ أقول هنا رومانسية ثورية لأنني أتفهّم سحرها على من يتبنّاها، نتحدّث هنا عن نظام رسمي، ليس سورياً محلياً فقط، بل عربي إقليمي وصل إلى حائط مسدود، وعن رغبة عارمة في التغيير الاجتماعي، قابلة للاستغلال من قبل عدد من القوى الإقليمية والدولية.
صدقي عاصور: كاتب فلسطيني
مقارنة الثورة السورية بأفغانستان قد تكون استشراقية وسطحية، هذا صحيح، لكن في الإمكان مقارنة سوريا بأفغانستان وأوكرانيا من ناحية إيمان بعض النخب اليسارية أن الاستثمار البشري والمادي بالثوار والمقاتلين يشكّل تحدّياً للوضع القائم ليس فقط محلياً في السياق السوفياتي والروسي والسوري، بل للمنظومة الدولية بأكملها. الماركسي الجنوب أفريقي جو سلوفو، أراد التوفيق بين الاعتراف بشرعية ثورات 1989 في شرق أوروبا ضد البيروقراطيات الشيوعية، وما بين تأكيد الاستمرار بنقد الرأسمالية والإمبريالية الغربية، هذا بالطبع محض تمنٍّ يشبه ما نراه اليوم مع النخب الداعمة لـ«ردع العدوان» وسقوط النظام. هذه هي الصورة البانورامية للفكر الذي يحتفي بالتطورات في سوريا، أمّا رد فعل اليسار بشكل عام على «طوفان الأقصى» و«ردع العدوان»، فهو يتطلّب تحليلاً أكثر تعقيداً متعدّد التصنيفات.
الصنف الأول هو «اليساري الممانع» الداعم لـ«الطوفان» والمناهض لـ«رد العدوان». يمكننا تفهم رد الفعل المتمركز حول الذات لدى هذا اليساري خاصة مع الإبادة السياسية الأخيرة التي ارتكبتها إسرائيل وحلفاؤها أخيراً ضد المقاومة، ومع احتمالية قطع خطوط الإمداد في سوريا. مع ذلك، لا يفهم هذا اليساري أن حروبه ونزاعاته ليست الوحيدة في العالم، وأن هنالك آخرين، لهم حروبهم وصراعاتهم وإنجازاتهم في الميدان. يعتب هذا اليساري على «الجزيرة» و«العربي الجديد» لدعمهم للمجهود الحربي للفصائل السورية وقد عتبت من قبله «جوقة سوريا الثورة» على المؤسسات لدعمها المجهود الحربي لحزب الله لصد الغزو الإسرائيلي. يعتبر هذا اليساري الممانعةَ أفضل حركة اجتماعية في العالم العربي كما تعتبر «الجوقة» أن الانتفاضة السورية هي أعظم ثورة في تاريخ المنطقة (كلاهما مخطئان؛ أضخم حركة اجتماعية في منطقتنا هي ثورة البترودولار في الجزيرة العربية). هذا اليساري خارج عن التاريخ لأنه فشل في إيجاد حركة اجتماعية حقيقية توازي نظيرتها الإسلامية (وتتنافس معها في مبدأ المقاومة كما يقول عبد الجواد عمر)، لذا، أعاد تكرار أخطائه السابقة منذ عقد، متقبلاً الانتقاص من قدر المقاومة باستدراجها مرة أخرى إلى الساحة السورية لمحاربة ما يسمى الإرهاب، ومتجهاً إلى التماس راحة البال من الموقف المصري الإعلامي من الأحداث، مقنعاً نفسه مرة أخرى أن عبد الناصر (وليس النظام العربي الإبراهيمي) هو من يحكم مصر.
هذا يحيلنا إلى الصنف الثاني الرافض لكل من «الطوفان» و«ردع العدوان»، وهو اليسار المرتبط بالإمارات حيناً و«قوات سوريا الديموقراطية» أحياناً والذي يتجهّز للتباكي على «الاحتلال التركي» لسوريا، على نسق تباكيه بالسنوات السابقة على «الاحتلال الإيراني» (هنا نشهد انشقاقاً في الحراك المشرقي المناهض لإيران ما بين قبول الدور التركي أو رفضه).
الصنف الثالث هم داعمو «ردع العدوان»، «الربيعيون»، العلمانيون والإسلاميون، ممن دعموا «طوفان الأقصى»، والذين وجدوا أنفسهم اليوم للمفارقة في خندق واحد مع الصنف الرابع: تلك الجوقة اللبنانية وغير اللبنانية التي حاربتهم سياسياً وإعلامياً بضراوة لأربعة عشر شهراً. ليس الإشكال فحسب مهاجمة تلك الجوقة الإسلامَ السياسي في فلسطين ولبنان وتسامحها معه في سوريا، بل الأدهى من ذلك مهاجمتهم منطق الحرب في فلسطين والإسناد في لبنان في مواجهة إسرائيل، ومباركتهم منطق الحرب الأهلية في سوريا (لدى بدء «ردع العدوان»). ذاك هو الرهط المحسوب على «14 آذار» الذي بارك اقتتال السوريين مع عدوٍ هو استجلبه عام 1976 ليقتل أهالي تل الزعتر وليمارس بالنيابة عنهم الحروب ضد المخيمات قبل أن جعلوا أنفسهم -سبحان الله- ضحايا هذا «الوصي» في عام 2005.
بدّدت «ردع العدوان» أساطير «الجوقة»، أهمّها بكائيات أن إيران هي المهيمن على المشرق. أولاً، نقطة الضعف الحقيقية لدى الممانعة هي في عدائها لإسرائيل وأميركا، أنت هنا اخترت جعل نفسك هشاً ومكشوفاً في الإقليم. ثانياً، «الجوقة» جعجعت لعدد من السنوات عن الوحش الإيراني في سوريا ولم تنبس ببنت شفة عن الوحش التركي. نظرة سريعة إلى خارطة حلب، حتى ما قبل «ردع العدوان»، تثبت لنا أنه ليس هناك شيء اسمه هيمنة دولة واحدة على المنطقة، بل صراع دولي عدمي يشبه الحرب العالمية الأولى ولكن هذه حقائق تزعزع «الرشاقة الأخلاقية» للجوقة، والتي -كالنظام السابق- خربت أي علاقة سياسية حقيقية مع السوريين، بعدما حوّلت قضيتهم إلى محض مسألة أخلاقاوية، تقسّم البشر إلى صديق وعدو، «نبيل» داعم للثورة السورية أو «نذل» ناقد لها.
«الطوفان» عرّى «الجوقة» و«ردع العدوان» زاد من عريّها. هم الذين تمنّنوا علينا منذ عام 2011 بأسطورة الاحتلال الإسرائيلي الرحيم بالمقارنة مع النظام السوري المستبد، وهم ذاتهم الذين بكوا نسيان العالم لسوريا -أثناء الإبادة في غزة- قبل أن يتبيّن أن فتات مقدرات المعارضة السورية أكبر حجماً بأشواط من مقدّرات المقاومة الفلسطينية. وهم ذاتهم الذين يطالبون بموقف عربي موحد داعم للثورة السورية بينما يصرخون «كل واحد يهتم ببلده» عندما نتحدّث عن فلسطين. وكما أن عدداً من المتاجرين بفلسطين -كالطاغية المخلوع- جعلوا محمد الماغوط يكره ليمون يافا وبرتقال حيفا و«فيتامين C» بأسره، هؤلاء المتاجرين بسوريا الثورة جعلونا نكره هواء ريف درعا النقي وخضرة غوطة دمشق وعملية البناء الضوئي لدى النباتات من أساسها.
تعليقات