$type=ticker$count=12$show=post$cols=3$cate=0

التوتر بين التطلعات العقلانية والمتطلبات التجريبية في فلسفة إدموند هوسرل (10/7)

ترجمة: أحمد رباص المقال الأصلي:   http://encyclo-philo.fr/husserl-a/ فيما يلي الجزء السابع من الترجمة: -5 الفينومينولوجيا الترنس...


ترجمة: أحمد رباص
المقال الأصلي:  http://encyclo-philo.fr/husserl-a/
فيما يلي الجزء السابع من الترجمة:


-5 الفينومينولوجيا الترنسندنتالية (المتعالية)
أ- من البسيكولوجيا الوصفية الى الفينومينولوجيا
وصف برنتانو تحقيقاته بأنها تعود الى "البسيكولوجيا الوصفية" ، وهو يعني بهذه العبارة "علم الظواهر النفسية". إن الظاهرة النفسية أو "ظاهرة الوعي" هي ظاهرة، على عكس "الظاهرة الفيزيائية" (لون، رائحة، منظر طبيعي، إلخ) ، تتميز بـ "القصدية"، أي كونها موجهة نحو شيء. مثلا، لا يوجد تمثيل ليس تمثيلا لشيء ما.  برنتانو يضع البسيكولوجيا الوصفية في تعارض مع "البسيكولوجيا الجينية". الأولى، على عكس الثانية، لا تسعى إلى إثبات النشوء السببي للظواهر، وإنما لها بالأحرى مهمة تحديد الخصائص المشتركة لجميع الظواهر النفسية، فضلاً عن تلك المحددة لهذا الفئة أو تلك من الظواهر. يتعلق الأمر بمعرفة الظواهر النفسية وكيفية تصنيفها.

مصدر المعرفة الذي تفضله البسيكولوجيا الوصفية هو "الإدراك الداخلي". إنه هو الذي يسمح لنا بالولوج إلى الظواهر النفسية. وهكذا يتعارض الإدراك الداخلي مع الإدراك الخارجي الذي يسمح لنا بالولوج إلى الظواهر الفيزيائية. بينما في الثانية لا شيء يضمن لنا أن الظواهر الفيزيائية موجودة بالفعل كما تبدو لنا، تقدم لنا الأولى موصوعاتها ببداهة فورية لا لبس فيه.

باعتباره تلميذا لبرنتانو، فمن الطبيعي أن التحليلات الأولى لهوسرل تموقعت كذلك في المستوى البسيكولوجي الوصفي. ومع ذلك، انفصل التلميذ بسرعة عن معلمه في عدة نقاط. النقطة الأولى تتعلق بظواهر الوعي التي تخضع للتحليل البسيكولوجي الوصفي: لا يتعلق الأمر فقط بالظواهر النفسية، ولكن على نطاق أوسع  ب"التجارب المعاشة" (Erlebnisse)، هوسرل يعني بذلك كل ما يتجلى في الوعي. يمكن أن تكون التجارب المعاشة مقصودة، وتسمى عندئذ "أفعالا"، أو غير مقصودة. في هذه الفئة الثانية نجد على وجه الخصوص الأحاسيس. وفقا لهوسرل، كان برنتانو قد استبعد  هذه الأخيرة من نطاق التحقيق في بسيكولوجياه الوصفية لأنه كان ما يزال يخلط بين ما يصدر عن التجربة المعاشة وما ينتمي إلى الموضوع نفسه. هكذا كان  يخلط، مثلا، بين الإحساس باللون وتلون الموضوع. بمجرد ما يحصل هذا التمييز، يصبح من الواضح أن الإحساس ينتمي أيضا إلى الوعي، أنه محايث، وليس ترنسندنتاليا (متعاليا).

النقطة الثانية من نقط الاختلاف بين هوسرل وبرنتانو تتعلق بالطريقة التي يأخذ بها التحليل البسيكولوجي الوصفي في الاعتبار التجارب المعاشة. بالنسبة للأول، لا ينبغي النظر إليها من وجهة نظر تجريبية، أي  ك"حالات واقعية لكائنات متحركة في واقع طبيعي"، ولكن بالنظر فقط إلى ماهيتها. عاب هوسرل على برنتانو كونه استند في بسيكولوجياه مرة أخرى إلى وصف التجارب المعاشة المتصورة على أنها أحداث حقيقية تنتمي إلى كائنات بشرية حقيقية، بدلاً من الاستناد إلى ماهية التجارب الحية. يجب أن يكون علم النفس الوصفي علمًا تصوريا، وليس علمًا واقائعيًا.

لكل هذه الأسباب، سوف يتخلى هوسرل في النهاية عن تسمية "البسيكولوجيا الوصفية" لصالح "الفينومينولوجيا" من أجل تحديد منهجه الفلسفي. فإذا كانت الثانية لا تقتصر على نوع معين من التجارب المعاشة وتسعى إلى وصفها "الخالص"، أي إلى الحدس (المقولاتي) لماهياتها، فالأولى لا تسعى سوى الى وصف تجريبي للتجارب المقصودة. الفينومينولوجيا إذن هي علم تصوري بالوعي، وفي هذا الأمر تختلف اختلافًا جوهريًا عن كل بسيكولوجيا. سوف تكون المسافة بين الفينومينولوجيا والبسيكولوجيا أكثر حدة عندما سيقوم هوسرل، ابتداء من 1907 في L’Idée de la phénoménologie، بأن يجعل من "الاختزال" طريقا للوصول الإلزامي إلى الأولى، وبالتالي استبعد نهائياً من مجال اهتمامه الذاتية التجريبية - التي هي جزء من العالم - لفائدة الذاتية المتعالية - التي تجعل العالم ممكنًا.

ب- الاختزال
طبقا لهوسرل، فإن المعرفة، ولا سيما تلك التي تقدمها لنا العلوم التجريبية، ليست محصنة من الشك المرتاب. من هنا السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يقدم لها الأساس الذي بموجبه يتم استبعاد كل شك منه. ومن الواضح أن الأمر متروك للفينومينولوجيا للإجابة على هذا السؤال. للقيام بذلك، يجب أولاً أن تجد نقطة بداية، وهي مجموعة من المعطيات التي لا لبس فيها والتي يؤسس عليها كل صرح المعرفة. لا يمكن استخلاص هذه المعطيات من العلوم التجريبية، لأنها بالتحديد هي التي وضعت موضع سؤال من قبل النزعة الشكية وأن من مهام الفينومينولوجيا تأسيسها. بالمقابل، تبدو التجارب المعاشة للوعي واعدة أكثر. في الواقع ، يمكنني أن أشك في وجود أو عدم وجود موضوع إدراكي، تمثلي، حكمي، إلخ، ولكن كوني أدرك، أتمثل أوأحكم، هذا بالنسبة لي، لا يطاله شك.

 التجارب المعاشة تعطى لنا في يقين واضح، يعني "شخصيا". في الواقع، تكون هناك بداهة عندما يكون هناك وعي بهوية بين ما هو مستهدف وما يقدم بطربقة حدسية.  تحقيق القصد الذي يحدث عندما يكون هناك بداهة يمكن أن يتم على أوجه مختلفة. مثلا، لا يمكن أن يكون إلا جزئيًا. سوف نتحدث بعد ذلك عن بداهة "غير كافية". هذه هي حالة بداهة شيء واقعي، لأن الأخير دائمًا ما يُعطى "بالرسومات التخطيطية" - هناك دائمًا واحد على الأقل من هذه الجوانب التي لا يمكنني إدراكها. على النقيض من ذلك، سيقال إن البداهة "كافية" إذا تم تحقيق القصد كاملا، وأنه غير خليق بأن يستكمل بحدوس أخرى. تعطى التجارب المعاشة بالكامل، وليس عن طريق الرسومات التخطيطية. البداهة التي تميزها كافية إذن.

الانطواء، الخالص والبسيط، على التجارب المعاشة، المحايثة للوعي، على حساب ما يتعالى عليها، لن يكون مع ذلك كافياً لتأسيس المعرفة في مجملها. في الواقع، أليست المعرفة معرفة بشيء ما، بحيث يبدو من المستحيل تأسيسها فعلا دون مراعاة هذا الشيء المعين؟  يجب إذن أن نجد طريقة لإدماج هذا الشيء المحدد في دائرة المحايثة  التي على أساسها تريد الفينومينولوجيا تأسيس المعرفة. هنا "epokhè" أو "reduction" (لن نفرق بين هذين المصطلحين في هذا النص). إنه هو الذي يجعلنا نلج الى المجال الفينومينولوجي بحصر المعنى.

يقحم epokhè قطيعة مع "الموقف الطبيعي". هذا الأخير يحافظ على الإيمان بوجود العالم، فالعالم هنا يشمل ليس فقط الأشياء، الناس والحيوانات، بل القيم والأشياء المثالية. يأخذ الموقف الطبيعي أوضاع وجود هذه الأشياء المتعالية كما لو كانت واضحة بذاتها. عندها يعود epokhè لتعليق هذا الايمان، ل"وضعه بين قوسين". إذا بدا هذا التمشي قريبًا جدًا من الشك الديكارتي، فيجب التأكيد مع ذلك، على عكس هذا الأخير، أنه ليس مؤقتًا، بحيث أن الموقف الطبيعي لدى ديكارت يتم ايجاده بمجرد إثبات ضمانة الصدق الالهي. بالنسبة لـهوسرل، من ناحية أخرى، يتطلب الموقف الفينومينولوجي التمسك بepokhè، لتحرير الذات بشكل دائم من إكراهات الموقف الطبيعي.

الEpokhè  هو طرد العالم كشيء واقعي متعال خارج الاعتبار الفينومينولوجي. ومع ذلك، فإنه لا ينكر وجود العالم، بل يشك في موقفً دوغمائيً تجاهه. الepokhè  في الواقع يترك كل شيء على حاله - لا يتعلق الأمر بالتشكيك في وجود العالم. بواسطة الاختزال (la réduction)، لا نخسر العالم، حتى لو لم يعد بالضبط متماثلا كليا مع عالم الموقف الطبيعي. هو مدرج من الآن في الدائرة الفينومينولوجية باعتباره مجرد موضوع للأفعال القصدية؛ هو مدرج فيه بشكل قصدي، لا واقعي. لا يعتبر إلا ك "ظاهرة"، بحيث تكون وحدها الكيفية التي يقدم بها نفسه للوعي مهمة، بغض النظر عن مسألة ما إذا كان موجودا أم لا. مثلا، في نظام الاختزال، لا تختفي الشجرة التي أراها: فهي ببساطة تتوقف عن كونها حقيقة قائمة بذاتها، وتختزل إلى مظهرها، وتعتبر كذلك. في النهاية، يدمج الاختزال الفينومينولوجي في المجال الفينومينولوجي ليس فقط "ما فيه يكمن الظهور"، أي التجربة المعاشة المحايثة، ولكن أيضًا ما يظهر كما يظهر.

هذا التقديم للاختزال الفينومينولوجي هو في الأساس ديكارتي بمعنى أنه يبدأ من البحث عن "نقطة أرخميدس" من أجل تأسيس العلوم بطريقة مطلقة. ولكن هذه ليست "الطريق" الوحيدة للوصول إلى الاختزال، حتى لو كانت هي الطريق المفضلة عمومًا في الكتابات التي نشرها هوسرل، ولا سيما في التأملات الديكارتية Méditations cartésiennes. وإلى جانب هذه الطريق الديكارتية الى الاختزال الفينومينولوجي، فإن نصوص أخرى كتبها هوسرل تجترح طريقا بواسطة علم النفس، تنطلق من البسيكولوجيا الوصفية القصدية وتغير طبيعتها، وطريقا أخرى بواسطة أنطولوجيا عالم الحياة، تنطلق من الأشياء المتشكلة وتعود إلى أفعال الوعي التي تشكلت.
(يتبع)

التعليقات

الاسم

اخبار العالم,2031,اخبار العرب,1751,اخبار المغرب,6530,أرشيف,10,أسبانيا,4,اسبانيا,172,أستراليا,1,اسكوبار الصحراء,7,إضاءة,1,إطاليا,5,إعلام,308,إعلام فرنسي,5,إفريقيا,59,اقتصاد,992,أقلام,15,الإتحاد الأوروبي,6,الأخيرة,1,الأردن,1,الإمارات,3,الأمم المتحدة,19,البرازيل,11,الجزائر,300,السعودية,15,الصحة,118,الصين,26,ألعراق,1,العراق,4,الفضاء,1,القدس,4,ألمانيا,23,المراة,129,الملف,25,النمسا,1,ألهند,1,الهند,2,الولايات المتحدة الأمريكية,74,اليمن,23,إيران,47,ايطاليا,1,باكستان,1,برشلونة,1,بريطانيا,1,بلجيكا,7,بيئة,15,تاريخ,5,تحقيق,1,تحليل,2,تدوين,763,ترجمة,1,تركيا,19,تغريدات,31,تغريدة,6,تقارير,1309,تقرير صحفي,75,تونس,91,ثقافة,2,جنوب إفريقيا,4,جنين,1,حرية,389,حزب الله,11,حماس,3,حوارات,80,ذكرى,2,روسيا,76,رياضة,376,زاوية نظر,41,زلزال الحوز,75,سوريا,14,سوسيال ميديا,18,سوشال ميديا,16,سياحة,2,سينما,29,شؤون ثقافية,448,صحافة,87,صحة,579,صوت,1,صوت و صورة,912,طاقة,25,طقس,1,عالم السيارات,1,عداد البنزين,5,عزة,2,علوم و تكنولوجيا,315,عناوين الصحف,322,غزة,89,فرنسا,180,فلسطين,4,فلسطين المحتلة,616,فنون,243,قطر,2,كاريكاتير,9,كأس العالم,108,كتاب الراي,1932,كولومبيا,1,لبنان,21,ليبيا,34,مجتمع,1254,مجنمع,10,مختارات,128,مدونات,5,مسرح,6,مشاهير,1,مصر,8,مغاربي,1047,ملف سامير,8,ملفات,53,منوعات,410,موريتانيا,16,مونديال,1,نقارير,2,نقرة على الفايس بوك,1,نيكاراغوا,1,
rtl
item
الغربال أنفو | موقع إخباري: التوتر بين التطلعات العقلانية والمتطلبات التجريبية في فلسفة إدموند هوسرل (10/7)
التوتر بين التطلعات العقلانية والمتطلبات التجريبية في فلسفة إدموند هوسرل (10/7)
https://1.bp.blogspot.com/-lVznsUYgaKI/WxxLFPq5qMI/AAAAAAAAtwo/BrGrBq1YQK0uFoCcrRPaAHQr97UA0eO_wCLcBGAs/s640/Frases-de-Edmund-Husserl.jpg
https://1.bp.blogspot.com/-lVznsUYgaKI/WxxLFPq5qMI/AAAAAAAAtwo/BrGrBq1YQK0uFoCcrRPaAHQr97UA0eO_wCLcBGAs/s72-c/Frases-de-Edmund-Husserl.jpg
الغربال أنفو | موقع إخباري
https://www.alghirbal.info/2018/07/107.html
https://www.alghirbal.info/
https://www.alghirbal.info/
https://www.alghirbal.info/2018/07/107.html
true
9159330962207536131
UTF-8
تحميل جميع الموضوعات لم يتم إيجاد اي موضوع عرض المزيد التفاصيل الرد الغاء الرد مسح بواسطة الرئيسية بقية أجزاء المقال: موضوع العرض الكامل مقالات في نفس الوسم قسم أرشيق المدونة بحث جميع الموضوعات لم يتم العثور على اي موضوع الرجوع الى الصفحة الرئيسية الأحد الأثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت شمس اثنين ثلاثاء اربعاء خميس جمعة سبت يناير فبراير مارس ابريل ماي يونيو يوليوز غشت شتنبر اكتوبر نوفمبر دجنبر يناير فبراير مارس ابريل ماي يونيو يوليوز غشت شتنبر اكتوبر نوفمبر دحنبر في هذه اللحظة 1 منذ دقيقة $$1$$ منذ دقيقة 1 منذ ساعة $$1$$ منذ ساعة أمس $$1$$ منذ يوم $$1$$ منذ ساعة منذ أكثر من 5 أسابيع متابعون يتبع هذا المقال المميز مقفل لمواصلة القراءة.. أولا شاركه على: ثانيا: انقر فوق الرابط الموجود على الشبكة الاجتماعية التي شاركت معها المقال انسخ كل الأكواد Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy عناوين ثانوية