*محجوب لطفي بلهادى “التاريخ يعيد نفسه إلى حدّ الاستنساخ” 1- قولة تنطبق تماما على المشهد الليبي الغارق في غياهب الفوضى.. بالأمس ا...
*محجوب لطفي بلهادى |
“التاريخ يعيد نفسه إلى حدّ الاستنساخ”
1- قولة تنطبق تماما على المشهد
الليبي الغارق في غياهب الفوضى.. بالأمس القريب نجح “القذافى” من التّحايل على
التركيبة القبلية المعقدة للمجتمع الليبي ليحكم البلاد لمدة أربع عقود..نفس
النموذج القبلي وبذات العناوين أسقطه من سدة الحكم ..واليوم يحول البناء القبلي
الموغل في العصبية مرّة أخرى دون انبعاث دولة ليبية قوية وموحدة فاسحا
المجال أمام لاعبا عابرا للحدود مهددا الجميع بالابتلاع اسمه “داعش”…
عندما أجمع عدد من الباحثين بان مفهوم
“العصبية الخلدونى” ترهّل بفعل التقادم واتجهت أراء عدد من الجامعيين الليبيين
إبان إسقاط نظام القذافى بأنّ ” ليبيا تنحو باتجاه ديمقراطية تتسم بالتعددية
والحرية والمساواة ” وان ” القبيلة ستسير ضمن التيار العام وستحتفظ بدورها كمظلة
اجتماعية فقط وليست سياسية بالمعنى ، الذي يمكنها من لعب دور سياسي يٌغيّر
الأمور”.. وعندما تم تقديم المعادلة الليبية الجديدة على كونها تنازع بين قطبين
أساسيين، العلمانيين من جهة والإسلاميين من جهة ثانية.. لحظتها كان “العامل
القبلي” حرّا طليقا من كل رقابة يفعل بليبيا ما يشاء ..يعيد تشكيل الجغرافيا
السياسية بالكامل.. وكنا نحن عاجزين عن فهم ما يجرى في هذا البلد المترامي
الأطراف…
2- ففي مقاربته التطورية الشهيرة
للدولة كان ابن خلدون يعنى بالدولة /القبيلة..فالدولة في “المقدمة” لم ترقي إلى
مستوى الذات الاعتبارية المستقلة التي بدأت تتشكل ملامحها بداية من القرن السادس
عشر بل كانت في تماهى كامل إلى حدّ الانصهار والتوحّد مع شخص الملك والقبيلة التي
تمثله ..فالدولة في المنظور الخلدوني اشتقاق لفعل “دال” “يدول” تداولته فيما بينها
الأسر الحاكمة وفق مقتضيات منسوب “العصبية” ..الوضع في ليبيا غير بعيد عن أفق
التحليل الخلدوني ..الخارطة الليبية تنطق قبائليا وعشائريا ..تتشكل من نسيج قبلي متنوع
يتحكم باحداثيات البوصلة السياسية..يوجهها في الاتجاهات الأربع في ظل غياب مزمن
للدولة بمفهومها المؤسساتي الحديث.. فحتى القبائل أو العشائر التي نزحت إلى كبريات
الحواضر الليبية وتمدرس أبناءها في أحدث الجامعات الأجنبية لا زالت تحافظ على قدر
كبير من عذريتها البدوية..فالقبيلة أولا والقبيلة ثانيا وأخيرا …
يقرّ عدد من المتابعين للشأن الليبي
بأن لعبة الشطرنج القبلية في ليبيا تٌدار منذ سقوط القذافى في مدينة “مصراتة
لتٌترجم في شكل أختام ومراسيم “بطرابلس″..وأنّ التقسيم بين “حكومة طبرق” في
شرق ليبيا و”فجر ليبيا” في غربها قد لا يعنى كثيرا الليبيين أنفسهم باعتبار أنهما
في المحصلة ليست سوى قوى منجذبة تحرّكها إرادات قبلية وعشائرية قد تتغير في أية
لحظة بمجرد أن يطرأ تحوّل في خارطة التحالفات القائمة…
3- مقوّمات الجغرافيا السياسية
لليبيا مغرية إلى أبعد الحدود تجعلها في مقدمة الاهتمامات الإقليمية
والدولية..موقع متوسطي مميز يتوسط المشرق العربي بالمغرب من جهة ويفصل أوروبا عن
إفريقيا من جهة ثانية..بوابة المتوسط بحدود بحرية تناهز 1770 كلم والصحراء
الكبرى.. يقبع تحت باطن كثبانها الرملية محيط من “الذهب الأسود” دونه لن تكون ليبيا
مركز كل هذا الاهتمام الجيوستراتيجى.. تحكمها على مرّ القرون تحالفات قبلية أسّست
لمشروع القبيلة/الدولة عوضا عن الدولة ما بعد القبيلة..تتناحر فيما بينها للسيطرة
على مصادر النفط كما كانت بالأمس البعيد على منابع المياه..تٌعدّ المكوّن الأساسي
للمجتمع الليبي..أكبرها عددا قبيلة “ورفلة” التي تضم أكثر من 50 عشيرة وعدد من
القبائل تتوزع في مختلف مناطق ليبيا منها قبائل “ترهونة” وقبائل “زناتة”
و”المقارحة” “والقذاذفة” و”الطوارق” الخ.. وعلى غرار جميع التشكيلات الاجتماعية
القبلية تتركب القبيلة الليبية من مجموعة من العشائر.. خصوصيتها أنها غير متجانسة
في الرؤى والمصالح..تحميها ميليشيات مسلحة غير نظامية متمرّسة على حرب الشوارع..
منها من هي منضبطة لتوجهات القبيلة / الأم ومنها خارج عن السيطرة
تماما.. تفرّعت عنها جماعات متخصصة في الجريمة المنظمة بجميع أنواعها تقوم بدور
الإمداد والتمويل Bailleurs de fond…
4- قبل دخول “داعش” على الخطّ الليبي
بقوة كان من الاستحالة على الأطراف الليبية المتناحرة أن يكون لها حضورا
“جيوبوليتيكى” مؤثر في المنطقة.. فتداعيات الانفلات والفوضى كانت مهمة من الممكن
ضبطها والتعامل معها من قبل دول الجوار.. المسألة اليوم اختلفت تماما..السيناريو
“الداعشى” المرعب في العراق وسوريا بدأت مقدماته تتضح على الأرض الليبية ..
استئثارها السريع بمدينة “سرت” وبداية تمددها في اتجاه الغرب يجعل منها
الخطر الحقيقى المباشر ليس للغرب الليبى فقط بل لكافة دول المنطقة…
5- فان كانت راهنية “المقدّمة” في فهم
المشهد الليبي لا يرقى إليها الشك ..فان “العصبية” التي تٌحرّك مختلف القوى لم تعد
هي ذاتها ..فالعصبية القبلية الليبية الراهنة مركّبة تعتمد على ثنائية الانتماء
الأسرى وتقاطع المصالح، وعلى دول الجوار – تونس والجزائر بالخصوص – أن تأخذ بعين
الاعتبار هذه الخصوصية العصبية ذات الطابع الاجرامى المتفسخ عند وضع استراتيجياتها
الأمنية المستقبلية…
*متخصص في التفكير الاستراتيجي من أكبر
المدارس الفرنسية
تعليقات